إنصاف لجماليات منسية
تُصدر النافذة الزرقاء الحديدية صريرًا معتادًا لا يُحتمل. فأُشيح بوجهي للجهة المعاكسة، بعيدًا عن تسرب أشعة الشمس ونسمات الشتاء الباردة. فأُصرّ على إغماض عينيّ لأكمل نومي. تستقبلني رائحة مألوفة تشجعني على النهوض أخيرًا، فأنزل العتبات الثلاث، وأستقرّ بالرابعة، ويسترق انتباهي امرأة بعينين لوزيتين مرهقتين تقف أمام تنور الخبز.
يتراقص انعكاس نور لهيب النار في مقلتيها تضع يدها اليسار على خصرها وهي في الحقيقة تنظر إلى الفراغ، إلى اللاشيء. أتساءل وهي تضع قطعة الخبز الساخنة في يدي، كيف تدير وقتها؟ وكأن الزمان لها. تعجن العجين والجميع لا زالوا نائمين، وتركنه في زاوية الغرفة مغطى بقماشٍ أصفر لتطعم الجميع بالوقت المناسب. يستيقظون ليجدوا الخبز مازال ساخنًا والحليب في غليانه الأخير. لم يفلت من يديها الوقت إلا مرة واحدة، كنت بعمر الحادية عشر، حين أطلقت ساقيها للريح ورائي، حاملةً بيدها قطعة خبز وبضع ريالات لتوقف باص المدرسة وتدسها في حقيبتي.
امرأةٌ برائحة الحناء والريحان، حٌرةٌ. لم يضع أحدٌ لها حدودًا، لأنها كانت تعرف حدودها دون أن يُذكرها أحد. في زمان يحترف الزيف، كانت تقول الحقيقة دون أن تخاف من شيء. لم تبالي بضجيج العالم، ولم تهتم يومًا لارتفاع وانخفاض أسعار المعيشة. لم تقلقها الأزمات السياسية، أشجارها كانت أكبر همومها، وألا يقوم أحد أطفال القرية العفاريت بتنغيص هناء الغصن الطري.
تلف حجابها مٌخفيةّ خلفه ضفيرتان يغلبمها اللون الأحمر، حيث تبرز أطرافهما تحته، ومعها عقد مفاتيح تعلقه بجانبيها. في الأعياد، يحل محل عقد المفاتيح المال، فتفك العُقدةَ وتدس العيديات في أيدي أحفادها وهي تعضّ شفتيها بإصرارٍ على العطاء، دون لفت النظر وألا يكون هناك مجال للرفض.
عندما يغادرون أحفادها بضجيجهم أخيرًا، وتبقى أمام الصمت، تستسلم أخيرًا لذكرى حزينة بعد تفكيرٍ طويل، فتهز رأسها وكأنها بذلك تصرِف الذكرى وتفزّ واقفةً وهي تردد، "الله يقطع التّلهم". لم تردد سوى أمنية شجاعة تتمنى فيها الموت على الضعف، "يارب خذني والحال بي جَميل".
تعيدني لها بعد أن أخذني التفكير فيها لأجدها تمسح بظاهر كفيها وجنتيها المحمرتين المتعرقة من حرارة التنور، فيعتصر قلبي الألم لأني لا أستطيع أن أهب عمري هديةً متواضعةً لهذه المرأة العظيمة. أريد أن يعرفها العالم ليدرك كم من امرأةً اختارت أن تعجن العجين وتخبز الخبز طوعًا وحبًا على أن تصنع التاريخ.
كيف ستمر هذه المرأة في ذاكرة الزمن كأي امرأة اخرى! من سيكتب سيرة النساء اللواتي أفنين أعمارهن لتحقيق أحلام غيرهن؟ النساء اللواتي وقفن طويلاً على عتبات الأبواب لانتظار القادم، لاستقباله بحفاوة بالغة، وأطلن من الشبابيك قلقاً على الراحل. أريد أن يعرف الجميع النساء اللواتي غادرن جنة التميز وفقاً لنظام العصر الحديث، بأنهن لا يزالن كنجوم تلفها غيمة شاردة ومغرية. فتذهب الغيمة وتبقى النجوم ثابتة بوجود مخلص وامتداد، لا لجمال لا ينتهي، وهكذا سيبقون.