مايا ونبيل: على جبهة الشوجيز العربي

Kiss Facility (Mayah Alkhateri), Nabeel (Yasir Razak)

الشوجيز - Shoegaze، فئة موسيقية تفرعت من الروك أند رول في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينيات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية. برز هذا الأسلوب الموسيقي نتيجة استخدام الفرق الموسيقية آنذاك لمؤثرات التشويه والتردد التي أضافت طابع حالم وضبابي للأغنية. جمهور الشوجيز كان ولا يزال من أكثر الجماهير انفتاحيةً وتنوعًا، حيث مثلت الفئة فرصة لفنانين صاعدين من مختلف الخلفيات في مجال الروك الصارم; مع ذكر أن غالبية الفرق كانت تتكون من أشخاص اعتدنا ظهورهم على المسرح، وعزلة النساء في بعض الزوايا من المشهد الموسيقي، مثل المغنية والموسيقية Paula Kelley التي غادرت Drop Nineteens نتيجة إحساسها بالعزلة كونها المرأة الوحيدة في تلك الفرقة. مع ذلك، كانت الفئة مرحبة إلى حد ما بالصوت النسائي، بالإضافة إلى تفضيل التجريب الموسيقي وتطوير طرق جديدة في الإنتاج والتسجيل. أمثلة أخرى تتضمن: My Bloody Valentine, Slowdive, Cocteau Twins, Lush.

موجة الشوجيز تذهب وتعود بترددات مختلفة مع كل دورة، مما أثبت لي حيوية الفئة الموسيقية وقدرتها على الاستمرارية وخلق قصص جديدة; حيث مازالت تلك الخامة الموسيقية تًلامس محبين الموسيقى جيل بعد جيل. اعتنقت المجتمعات الموسيقية العربية تلك الفئة عدة مرات على منصات مختلفة خلال فترة تواجدي فيها منذ حوال عام 2010 حتى اليوم. مؤخرًا، شهدت بزوغ جديد للشوجيز بعد فترة ركود عن طريق الإنترنت، خصوصًا عن طريق تيك توك.

مايا الخاطري، أو تحت الاسم الفني Kiss Facility مع المنتج الموسيقي Salvador Navarrete، هي فنانة شوجيز عربية من أصول إماراتية-مصرية، ذكرت مؤخرًا في لقاء مع Dazed MENA أن تكوين الفرقة جاء بشرط وحيد، وهو أن تغني مايا باللغة العربية. كان ردها، "يجب علينا أن نحتضن لغتنا. نحن بحاجة للموسيقى العربية، بالتحديد في فئات موسيقية مختلفة مثل الروك البديل". الفكرة بسيطة، دمج مابين اللغة العربية والشوجيز- Shoegaze، ولكن المُلفت أن النتيجة ناجحة ومنطقية سياقيًا; ليس في حدود الموسيقى العربية فقط، بل كعمل موسيقي نقي. لا يقف صوت مايا العربي بشذوذ أمام خلفية من الأصوات الغربية، بل يتجانس بطريقة جديدة لم يسبق لي كمستمع متفاني للموسيقى العربية البديلة سماعه مسبقًا. كذلك، لا تتجسد اللغة العربية بطريقة سطحية في أغانيهم كالأمثلة التجارية التي اعتدنا سماعها نتيجة للتبادل الثقافي العربي-غربي في العشرين سنة الماضية، حيث يكرر المغني مصطلحات عربية سطحية، ليضيف طابع عربي على أغنية لا تمت للفن العربي بصِله. أشعر بأن هذه الحركة الجديدة تسعى لاتجاه فني جدي بعيدًا عن الإفراط في الفكاهة أو المبالغة في تبسيط اللغة لجمهور أجنبي.

إلى جانب مايا الخاطري، يقف ياسر رزاق، الموسيقي العراقي-أمريكي، مؤسس فرقة Nabeel - نبيل. نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، بعيدًا عن موطنه العراق. شعر بالرغبة في الاتصال مع أصوله العراقية بطريقة معنوية أكثر من خلال دمج عوالمه الثقافية في هذا المشروع. يتشارك مع مايا بنجاح دمجه لتلك الاتجاهات المتضادة; اللغة العربية والروك البديل. ذُكر مؤخرًا في لقاء لنبيل مع Dazed MENA: "يظهر ذلك الدمج في أغاني نبيل بطريقة طبيعية تمامًا. تتميز بعاطفة نقية وحقيقية لا تُشعرك بأنها خليط مابين الفئتين، بل تقدم شيء جديد تمامًا".

يعود فضل نجاح هذه التجارب لرغبة هؤلاء الفنانين في الاكتشاف من جهة، ولطبيعة الفئة الموسيقية من جهة أخرى. أعتقد أن بعض الفئات تتجانس بطريقة طبيعية مع اللغة العربية أكثر من غيرها. يتبادر إلى ذهني مثال آخر; مثل إصدارات Soapkills التي دمجت الغناء باللغة العربية مع الـTrip-hop في ألبومهم الأول (2000) Bater، بينما دمجت فرقة Massive Attack البريطانية بعض الألحان والطبول والآلات الموسيقية العربية في ألبوم (1998) Mezzanine، بالأخص في أغنية Inertia Creeps.

الدمج مابين الفئات لا يقتصر على إلهام الغربي للعربي فحسب، فقناة الإلهام مفتوحة من الجهتين. التبادل الثقافي في ساحة الإنترنت أصبح جزء أساسي من صناعة الموسيقى، نرى اليوم عدد هائل من الفنانين الخليجيين والعرب يكتبون الكلمات باللغة الإنجليزية ويستبدلون الآلات الموسيقية العربية التقليدية بالتوزيع الغربي. مع التنويه أن مانراه الآن من "تغريب" الموسيقى لا يعتبر ظاهرة جديدة أو من طرف واحد. شهدنا في الألفينات موجة مشابهة من عولمة الموسيقى العربية، سواءًا كان من خلال تشجيع الفنانين والفنانات العرب للتعاون مع فنانين ومنتجين غربيين، أو اعتناق الفنانين الغربيين للمقامات والآلات الموسيقية العربية في إنتاجهم.

ولكن يجب أن نطرح سؤال آخر بخصوص التبادل الثقافي; هل تُعتبر الموسيقى العربية التي تستعير من الموسيقى الغربية، غربية؟ بالمختصر، لا. لأن عملية التبادل الثقافي التي ذكرناها ليست حديثة بتاتًا، وهي من أساسيات بناء وتطوير أية ثقافة ناشئة. تتجلى هذه الظاهرة بوضوح في نشأة اللغات وتفرعها، وهي عملية مبنية على التبادل الثقافي أولًا. يستعير طرف مصطلحًا من لغة من طرف الآخر، ثم يكوّن له معنىً وسياق ثالث يخدم غرض جديد، ومع مرور الوقت يتجرد المصطلح من كونه شرقي أو غربي، ويترسخ في الثقافة لأنه ينتمي إليها. الفارق الوحيد مابين الماضي والحاضر بهذا الخصوص هو أن تلك التطورات كانت تحصل في سياق ثقافي مرتبط بأحداث واقعية وعلى مدى فترة طويلة من الزمن، مما جعل تلك المفاهيم تمر بمرحلة تصفية وترشيح يتم إقصائها في حالة لم تثبت فعاليتها في المجتمع المُتلقي. ولكن حين نقارن طريقة اعتماد التبادل الثقافي سابقًا، نلحظ أن العملية اليوم أصبحت أسرع مما كانت عليه بآلاف المرات، إلى جانب ضغوطات العصر الحديث ووجهات النظر المتضادة; يتضح لنا أن عملية تبني التبادل الثقافي اليوم ضحلة وأكثر تعقيدًا مما كانت عليه.

لنتوصل إلى بعض الاستنتاجات. ساحتنا الموسيقية العالمية لا تحتاج إلى اللغة الإنجليزية، وذلك نتيجة لوفرة الموسيقى الناطقة بها. يحمل شعلة اللغة الإنجليزية عدد مهول من الفنانين والفنانات; يعبرون عن طيف شاسع من الأحاسيس والقضايا بمختلف الطرق الموسيقية سواءًا من خلال عدسة البوب والموسيقية السائدة إلى أعمق التجارب الفردية المستقلة. توسّع النطاق الموسيقي الغربي إلى درجة سمحت لكافة أنواع الموسيقيين بالتواجد وتكوين جمهور متفاني.

نحن بحاجة للغة العربية في الموسيقى كمستمعين أولًا، قبل أن تتحمل الأغنية أعباء السيادة الثقافية. مسؤولية اللغة العربية في الموسيقى الآن هي أن تخاطبنا وأن تجسد مختلف تجاربنا وآرائنا. مازال أمام الفنان العربي طرق موسيقية وقضايا ومشاعر لا تُحصى حتى يكتشفها ويفككها ويعيد تركيبها من جديد، خصوصًا في ظل التطورات والإمكانيات الجديدة التي نعيشها اليوم. الموضوع لا يقتصر على الروك البديل أو الشوجيز أو أية فئة موسيقية أخرى. رؤية هذه الأمثلة يسلط الضوء على قضايا مهمة في الموسيقى العربية اليوم ويحثنا على البحث عنها في أوساط مستقلة وغير تقليدية; وأن نشترط كمستمعين أن تكون تجارب ناجحة سياقيًا.

تتجه الموسيقى العربية اليوم إلى أساليب يافعة ومستقبلية، لا لمواكبة السوق الموسيقي العالمي وحسب، بل لتثري علينا كمستمعين في العالم العربي. من الطبيعي أن نتساءل عن مصادر ومنطقية التأثيرات التي تحفنا من جميع الجهات، ومن الطبيعي كذلك أن نستقي الإلهام وأن نتأثر بثقافات غير عربية. أتطلع لرؤية هذه الموجة، خصوصًا مع توافر أدوات صناعة الموسيقى وشروحات استخدامها عن طريق الإنترنت. وأتطلع لرؤية هذه النقاشات تتجسد في نقد الموسيقى، وأن نستمر بتحليل مايحدد عروبة العمل وماهية الهوية العربية المعاصرة. إضافةً إلى استيعاب حالة الثقافة العربية اليوم ومايحتاجه الفنان والجمهور.


استمعوا لإصدارات Kissfacility و نبيل الجديدة، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين العرب البديلين عن طريق بلاليست هذا العدد على أنغامي أو سبوتيفاي أو آبل ميوزك.

Previous
Previous

الموسيقى الإلكترونية: من طق طق للسلام عليكم

Next
Next

إنصاف لجماليات منسية