نشط في الليل
في الساعة التاسعة مساءًا، تبدأ حكاية يومية في حياة آدم الذي لم ينَم منذ ثلاثة أشهر; نَسيَ كيف يخلد البشر للنوم. جلس ساكنًا وسط ضجيج المنزل، يترقب بدء اختفاء الجميع واحدًا تلو الآخر، كلٌّ لغرفة نومه، حتى الساعة الواحدة صباحًا، اُطفئت الأنوار فعرج إلى غرفة نومه هو كذلك، واستلقى على ظهره يستمع لطنين الصمت حتى الفجر. في البداية كان الموضوع مؤرق له ولمن حوله، ولكن مع مرور الوقت توقف عن الحديث. أصبح أخرس، يشارك قلة ما يتبادر لذهنه من فينة لأخرى، بدون شرح مفصّل.
على سفرة العشاء في وقت سابق من هذه الليلة، صرّحت أخته حواء، "آدم يدور في غرفته مثل النمر الحبيس، أستيقظ في ساعة متأخرة من الليل فأسمع خطواته وهو يطوف في غرفته، هو لا ينام فعلًا!".
إن كان هو عثة، فهي دبور; لا تمكث أن تشارك كل فكرة بطنينٍ مُلحّ، خارج حدود الأدب والمراعاة. حواء سلّيطة اللسان لطيفة بطريقتها الخاصة، حتى من خلال هجماتها الحمقاء وصراحتها المفرطة.
قرعت الساعة الثانية صباحًا، وهاهو آدم في غرفة نومه، مثلما وصفته حواء بالضبط; يطوف في غرفته مثل النمر الحبيس، يفكر ويحلل ويخطط، وكلما انبثقت فكرة داخل جدار جمجمته قفز قفزة خفيفة وعاد لطوافه حول الغرفة. حلقات وحلقات وحلقات، يسترجع أحداث مضت في حرية تامة، يسحب خيوط ضعفه وفزعه من بكَرةٍ لا تنتهي. التفكير المفرط هو غذاؤه، فماذا سيدفع عقارب ساعة الليل سوى التفكير؟
إنسان بلا عمل ولا اهتمامات، وأضحى في النهاية بلا حياة اجتماعية خارج حدود المنزل، لا يُقاطع دورانه أحد، يقضي الليالي في نفس الروتين، حتى يبزغ الفجر ويبدأ الجميع في التوافد إلى سفرة الفطور، فيتسلل من باب غرفته مثل دخيل، وينظم إليهم على السفرة، كلُّ يحكي للبقية عن أحلامه ومايشتهي للفطور، بينما يجلس هو صامت تلفحه محادثاتهم من كل اتجاه.
قُرع الباب بدقات ساخرة، إنها حواء. قالت، "هل أنت مشاركٌ في دراسةٍ علمية؟ لأني أفضل الموت على أن أعيش في أرقٍ كل ليلة"، انضمّت إليه وفي يدها كأسان من الحليب المغلي بالزنجبيل، مازالت تحمل أمل الخلود للنوم. تفحصت غرفته المرتبة بإفراط، كل سطحٍ معقم وكل ذرة غبار مكنوسة بعنايةٍ سريرية; "غرفة عمليات!" سخرت منه وقهقهت وهي تبحث عن مكانٍ تجلس فيه. "كيف تستطيع العيش هكذا؟ لا أستطيع الجلوس خوفًا من أن أسكب شيئًا أو أغير ترتيبك الهندسي لأغراضك".
"ما ألهاكِ عن النوم؟ أتقدم لكِ أحدهم بالزواج؟" رد عليها بهدوء. "كم أنت بارد! أتساءل أحيانًا، هل رماكَ أحدهم عند عتبة بابنا؟ أتصور أنك كنت من هؤلاء الأطفال الذين لا يبكون عند ولادتهم، ففُزعوا من برودك الصارم. عمومًا، جئتك لأحكي لك عما جرى، وبصراحة، أعرف أنك لن تصرخ فيّ. لقد فُصلت من عملي". رأت علامات الفزع على وجهه، "لا تسأل، أنا مصدومة جدًا، وكان الموضوع خطأي تمامًا. لم أكن متوقعة أن أتأثر بهذا الشكل". "أحاولتِ أن تناقشيهم؟" سأل بعد صمتٍ فقالت، "حاولت، حتى صرخت في وجوههم وغادرت".
ضمت كفيّها وقالت، "لطخات حياتك تحيط بنا في هذه الغرفة، كل زاوية تذكرني بما جرى لك; ترتيبك المفرط، وسريرك البارد. أخشى أن يحولني هذا الموقف إلى ما أنت عليه، هاربٌ من الحياة". كلماتها جارحة ولكن لم يعد لها وطأة عليّ، ربما لذلك تفضل الجلوس معي، فكّرَ آدم. "أتذكر عندما كنت طفلًا؟، عندما كانت تراودك الكوابيس فتيقظ الجميع بصراخك وبكاءك، وتأتيك أمي فزِعَه. عليك أن تتعلم من آدم الطفل. أصرخ! لا تتجمد في مكانك بسبب ماجرى". بدأت حواء تُذكّره بحكايات فضّلَ ألا يخوض في تفاصيلها، فقام يدور في الغرفة كعادته.
"العثة كائن نشط في الليل، هذا ما أنا عليه، لا أكثر ولا أقل". "إذا أنت عثة! أبإمكانك أن تصبح من تلك العثث ذات الأجنحة الملونة والجسد الناعم اللطيف؟ لماذا اخترت أن تكون عثةً باهتة، عثة الموت"، وفتحت كفيها بغضب. "تحظى بأربعة وعشرين ساعة في اليوم، بينما المحظوظ منا يحظى بستة عشر أو أقل، أيُعقل أنك عجزت أن تنسى؟ بعد كل تلك الساعات الطويلة من التحليل الشديد؟ ألم تجد طريقة للتعايش مع حقيقة الأمر؟ هذا ما أبحث أنا عنه، أفِدني بخبرتك وتفكيرك المقيت، لعلّي أجد ما يخفف عليّ وطأة خسارتي لعملي". كانت أنانية، لم يأبه لكلماتها اللاذعة، ولكن أنانيتها قتلته.
كل ما يعرفه آدم هو أن امتناع جسده عن النوم ليس هروبًا، إنما تمسُّك شديد بالحياة، يدقق في تفاصيلها ويغوص بشتى الوسائل في ما يجري حوله. متشبث بأمل أن تحين اللحظة التي يجد فيها الطمأنينة في ليلة ما، فيتوسد إحدى زوايا غرفته وينام إلى ظهيرة اليوم التالي. يرى الأمل في الليالي، وامتنع أن يعبر لها عن تفاؤلِه، لن يشاركه أحد ذلك التفاؤل بالأرق.
جلس يتأمل الحليب وهو يتصلب في الكأس.
من خلال النافذة، بدأت خصل أشعة الشمس تعلن حضورها، خصلة وراء الأخرى حتى ملأت الغرفة بدِفئها. "نور البداية والنهاية، أعتقد"، قال لها هامسًا، لم ترد عليه. التفت فوجدها نائمة في مكانها محتضنةً كأس الحليب الفارغ، فشرب ماتبقى من كأسهِ، وخرج خلسة ينتظر حضور الجميع للفطور.
أشعر أنك تواجه صعوبة في تخصيص الوقت لمن تُحب