جنازة الشغف

لماذا البشر مهووسون بالنجاح؟ هل يخشون الموت بلا اسم؟ 

في الميثولوجيا الإغريقية، تحدى الملك (سيزيف) الموت. فلما سمع الإله (زيوس) بفعلته عاقبه بإجباره على حمل صخرة عظيمة إلى أعلى الجبل فما أن تصل الصخرة لأعلى الجبل حتى تتدحرج هاوية إلى الأسفل. فيعيد (سيزيف) عمله من جديد. مرارًا وتكرارًا، إلى الأبد.


 أقف الآن على ضفة منحدر تسلقته سابقًا وأنا أحمل آمالًا عظيمة على ظهري. ولكن الآن على عكس المرة السابقة، تقع الآمال المذكورة تحت قدمي متشكلة في هيئة جثة هامدة. وأنا أستعد لأن أركلها عبر المنحدر اللعين فلا يسمع دويها أحد.

لا يمكن تصور لحظة أكثر أسى وبؤس. وأنا أقف أمام رفات عملي المُضني مواجهًا جميع الخيبات السابقة. تعتريني المشاعر بعنف وحسرة وترادوني صور ابتسامتي البلهاء السابقة وأنا أحمل أوزان الأمل متسلقًا تلك القمة. كل ماكنت احمله على ظهري ببهجة اجده الآن باهت، وبلا روح، وميت.

ما اصفه هو لحظة استيعاب بشعة تغلفها الأوساخ وتبعث رائحة نتنة. تشابه النظر في المرآة فلا تتعرف على الانعكاس المحدق، لحظة مريرة تختفي فيها الألفة والمواساة. فتلعن الانعكاس مؤشرًا بإصبعك غضبًا وحنقًا فلا يجيبك ذلك الوجه. ولا يأتيك الرد إلا على هيئة حكة .في الحنجرة تجبرك على الصمت، فتخرس 


على ضفة المنحدر، اركل جثة الشغف فلا يوقفها أحد. تتدحرج حتى تسقط محدثه صوت أبله. بلا دراما ولا تصفيق. بل لا يلحظ غيابها أحد ولا يتذكر أحد وجودها.

تخلصت من شغفي وسكنت لوحدي في هذا الجسد. فشعرت بالراحة، نعم ارتحت. في البداية اختفى الصوت المُلح واختفى الشك بالذات وتوقف الصراع. ولكن ما العمل الآن؟ اشعر بالوحدة. فقدت الحواس وبدأت انماط الحياة بالامتزاج. وعاد الفراغ فأيقنت أن المعاناة كانت الذ من التنمل.

لماذا مات الشغف؟ 


لم أقبل الفشل يومًا، كان الفشل مدخل للشك. ولم أكن صبورًا حين أفشل. كان الفشل مثير للخجل. كان النجاح هو الخيار الوحيد وإن كنت على يقين بأني سأفشل، فلن أحاول. الاستسلام كان محاولة للاحتفاظ بما تبقى مني حتى وإن كان ما ينتظرني أعظم. كان هذا هو مبدأ ذلك الصوت الهامس ذو النبرة المقنعة المختبئ في طوايا ذهني.

لماذا البشر مهووسون بالنجاح؟ هل يخشون الموت بلا اسم؟ 


منذ الأزل، يحاول الإنسان ترك بصمته ليقينه بانه سيموت يومًا ما، فيطبع اسمه على الكتب ويوقع على زوايا اللوحات حتى يحول هويته إلى فكرة خيالية تحمل تفاصيله ومبادئه. على أمل ان يُخلد في أذهان البشر خارج جسده المتآكل. فحين يفشل في ترك ذلك الأثر، يقتل فكرة نفسه الخالدة.

الرغبة في الخلود تهدم الشغف الطفولي، وتمحي الرغبة الحقيقية في الحياة.  


الآن، بعد ما انتهى الأمر. دُفن الميت. بهت لونه وتعفن جوفه، واختفى. لا يمكن بعث الحياة في جثة مُزرقة. فمحاولة إيقاظ الميت كمثَل أن تستقبل العالم بالدموع مؤشرًا إلى وجهك قائلًا: "أشفقوا علي". عوضًا عن تلك التفاهة، سأكون ألدّ أعداء الجثة الهامدة واتركها تتدحرج بسلام.

مثل أسطورة (سيزيف). يتكرر البحث عن الشغف مرارًا وتكرارًا. ولادة يتبعها موت بلا وعود ولا يقين ولا شعور بالاستحقاقية. لأن الواقع ينص على أن فشلنا محتم، وألمنا لن يُكافئ، وليس لكل شيء تبرير. ولكن إن استمرينا في صعود تلك التلة لأننا نريد ذلك وليس لأننا نشعر بأننا مجبرين، قد نصادف ما يجعل العيش يُطاق.

لن أقرع أبواب الموتى. سأدير ظهري لجثة الشغف. وأواصل السير في خط متعرج، في حداد ممل. في صداع يشتد مع كل خطوة حتى أبلغ سفح جبل فأنظر لقمته. فأجد يدًا ملوحة، وأعرف يقينًا ان احتمالية السقوط والوصول متساوية. فأتسلق بلا تردد. وأستمر حاملًا آمالًا عظيمة.

Previous
Previous

فن الهروب: النوستالجيا

Next
Next

أين أصحاب الأحذية