فن الهروب: النوستالجيا
ا”ذلك الحنين للحظات ولتجارب لم تكتمل، ولعجزنا عن إيجاد أجوبة عن تساؤلات في المستقبل، وهروب من إحباطات اللحظة الراهنة ويانصيب الغد.”د
(مجنون ليلى آخر يتفقد الأطلال)
محمود درويش -
هنالك حالة هروب أو حنين اسمها (النوستالجيا) يقال إنها حالة مَرضية اعترت الجنود في الحروب الأولى، فعجز الطب ان يجد لها دلالة علمية وطبية، فوجد لها الأدب مسمى شاعري، شعور صوفي رومانسي اتجاه الماضي واجتراره والتلذذ به.
ذلك الحنين للحظات ولتجارب لم تكتمل، ولعجزنا عن إيجاد أجوبة عن تساؤلات في المستقبل، وهروب من إحباطات اللحظة الراهنة ويانصيب الغد. كما حدث أن علق جيل اليوم في فترة الأربعينات والخمسينات من تاريخ القاهرة، بث درامي كثيف لتلك الفترة في صناعة الترفيه والسينما والترويج لها.
وهي حالة (نوستالجيا) كما كتب عنها عاطف زاهر في ضوء تحليله لظاهرة النوستالجيا في مصر عندما قال: (وعلى نحو كارثي أكبر لا يمكن تفادي تلك المحاولات البائسة حقا لتسويق فكرة الحنين لمرحلة لم يعشها معظم من يتكلمون عنها. وكيف كانت مرحلة مخملية وناعمة، غنية وقوية، عبر صور ضوئية بالأبيض والأسود للطبقة العليا في هذه الفترة من مصريين وأجانب. بغض النظر عمن يمكن أن يبدو في خلفيات وزوايا الصورة من مصريين حفاة يحملون متاع الأجانب والباشوات في القاهرة الإسماعيلية).
كانت مرحلة ذات ظلال رمادية متعددة، وطريقة جديدة للشعور، والإحساس بشعور قديم لقناعتهم بأن الاحوال في الماضي كانت أفضل.
(كل ما تفعله النوستالجيا هو إيهامنا بوجود أرض صلبة نقف عليها فنهمل حاضرنا)
سفيتلانا بويم -
كما علق رجال الدين في تلك الفترة عبر قصصهم ومواعظهم لشخصيات قديمة وفروسيات ذهبية، لإحساسهم بالغربة في هذا العالم الحديث ولعجزهم عن التأقلم مع إيقاع تغييراته السريعة.
نقف بين برزخ الماضي والحاضر. توحدنا الهشاشة والحنين، عاطفون عن عمد، نجوب طرقات الماضي، نراها طرقات خفيفة وجميلة وهوائها لطيف وسمائها نظيفة. ولنا أحلامنا الكبرى أن نصحو يوما على شفاء خيباتنا الصغرى ونجد الواقع قد تبدل وعدنا خفيفي الظل، وقليلي الالم وقد تبدلت الاصفار والأرقام والاسماء والأحاسيس.
نسينا كلمات الاغنيات الحديثة واستمعنا للأغاني والأشعار القديمة، وكأن الياسمين والحمائم في اشعار نزار قباني مختلفة عن ياسمين اليوم.
وشطرنج امرؤ القيس في قصيدته أجمل ملمسًا، وكأن أشجار اللوز وزهرة الرمان في قصائد محمود درويش لا تزهر الان في أزقات شوارعنا العربية!ة
وتمادينا في العاطفية والهروب ورممنا البيوت القديمة للطين والحجارة، وجملت المتاحف والعمران ذلك الحلم والوهم.
وفُتحت مزارات يسكنها صاحبها كصوفي يتعبد في محرابه، ويدعو أن تعود الذكريات.
وعلى درج البيت القديم ننسى الحاضر ونتمرد على الغد.
وكانت ذاكرتنا هي جواز السفر المطلوب فقط للسفر والهروب.