نفسك التي لا تراها في المرآة

“بدون مرآة، ولا جمهور محدق. هل يمتلك الانسان آراء وتفضيلات وفلسفات؟”

مقدمة

غالبًا ما أجد نفسي أحدق في المرآة عقب أزمة وجودية. أحدق في مقلتيّ مبتعدًا بضع خطوات لآخذ نظرة فاحصة ثم أعود وأحدق فيهما عن قرب حتى تبدوان وكأنهما حفرتان بلا قعر، حتى يعتريني شعور غامر بالانزعاج فأتوقف واخلد للنوم بلا فريسة.

ذلك طقس اعتدت ممارسته بشكل مستمر، ودائمًا ماكنت أخرج منه خائبًا. أسعى مستميتًا لرؤية صورة واضحة للأنا التي تقبع داخل هذه الصدفة المسماة بالجسد بلا أي نتيجة ترضي رغبتي. فيعتريني الشك في طريقتي التي لطالما آمنت أنها السبيل الوحيد.

لن اسرد التعاريف الموسوعية والمفاهيم الجاهزة. فلنخطو عوضًا عن ذلك نحو طريقة بديلة لاستكشاف منظور آخر للنظر للذات.


بدون مرآة

مؤخرًا، ايقنت أن مسرحيتي الصغيرة أمام المرآة لم تكن صحيحة بتاتًا. محاولاتي البائسة لإيجاد الأنا من خلال لعب دور "آخر" في المرآة لن تثمر أبدًا.

سابقاً، كان استيعاب الذات بالنسبة إليّ شيء لا يحدث إلا في الغرف المكتظة حيث اقضي جل وقتي بين جموع الناس افرز الآراء وردود الأفعال والنظرات العابرة.

وحين أعود امام مرآتي، ابدأ بتحليل كل ذلك واقرر (منتحلًا دور آخر) أي من تلك الأفكار تمثلني.

ولكن بدون مرآة، ولا جمهور محدق. هل يمتلك الانسان آراء وتفضيلات وفلسفات؟


قد تُبرر علة المرآة بسبب طبيعة الإنسان الاجتماعية. فنحن نتفق إلى حد ما أن الشخصية لا تُخلق في الفراغ. فكثير من قيمنا وأفكارنا تتشكل بطريقة ما نتيجة مسايرتنا لمحيطنا أو تمردنا عكس تياره. ومن هذه الزاوية قد نستنتج أن لا ذات بلا مرآة أو بلا جمهور.

ولكن أليس الانسان موجود حتى في غياب المرايا؟ نحن لسنا مجرد انعكاس ونحن بالتأكيد لسنا سجينين حالة واحدة، حتى وإن لم يشهد الذات أحد، لا تزال موجودة. تفكر، تؤثر، وتتجدد باستمرار.

يرتكز البحث عن الذات خارج إطارات المرايا على فكرة واحدة، أتمنى أن أجد الذات في حالتها النقية. بعيدًا عن الأحكام ولعب الأدوار. وأن تكون حالة النقاء تلك موازية لمهاراتنا على إطلاق الحكم التي نستخدمها لاكتساب الوعي العام بما يحيط بنا. فإيجاد مساحة ذهنية يرى فيها كل منا نفسه بوضوح بعيدًا عن ضبابيات ما يُعتبر "حقيقي" وتشويش الآراء وصخب الوجوه سيوصلنا لنوع من الرضا والاكتفاء، رضا لن يحصل في حالة اعتمدنا على البيئة الخارجية وحدها لمعرفة أنفسنا.


ليس من الضروري أن تكون الأنا الداخلية رثة المظهر، منفصلة عن العالم الخارجي ولا تتقن التمييز ما بين الألوان. لن تغض الأنا الحرة بصرها عن الحقيقة، إنما هي تعيش حالة من التفرد يكون فيها رأي الذات أولى من المعايير السائدة. حيث لا يُقصى الوعي الأساسي. إنما يُعتبر الصوت الداخلي هو المرجع الرئيسي في عملية تصنيف ما هو جميل. بمعنى أن تجتمع نسبة من الوعي مع التفرد، وينتصر التفرد دائمًا في اخذ القطعة الأكبر. مما ينتج رأي فريد لا تشوبه انتقادات بائسة يمليها عليه جمهور لا يعي. إنها عملية جذرية لإعادة الجمال في عين الناظر حيث ينتمي.


إعتاق الذات من اصفاد البيئة الخارجية ليس ذريعة للفشل. ليس هروبًا من النظر في المرآة ورؤية الإخفاق أو الضعف، وليس استسلام كذلك. على النقيض، حين يتعلق الأمر بالطموح، صرف الانتباه عما تمليه علينا البيئة الخارجية هو الطريقة المثالية لإيجاد الطموح بدايةً. لن يكون الطموح صادقًا إلا إن خُلق من أعمق نقطة صميميه صادقة، من جوهر النفس النقية.


كما تؤثر نظرتنا لأنفسنا في الطريقة التي نحب بها الآخرين. فإن كنا نكرس وجودنا للخوف من جمهور عدائي، سينتقل هذا المبدأ بشكل مباشر لعاداتنا في الحب. لماذا نخاف حب شخص يحتاج إلينا؟ شخص متضرر حزين لم يصل إلى مبتغاه بعد. لا يمثل الصور التقليدية التي اعتدناها، شخص قد لا نُحسد على رابطة الحب التي نتشاركها معه. قد نعجز أحيانًا عن قبول الحب الذي يتشكل على هيئة متآكلة ونستمر بخلق الكره البارد الاعتباطي. لماذا لا نحب لنتشارك الأسى والحسرة؟

لا يكون الحب حبًا حتى نتجاهل الفوائد التي قد يقدمها لنا الآخرون. سنتجرد من الامتلاك الجشع ولن نسعى وراء بريق اجتماعي يبهت بمجرد أن تبتعد عنه الأضواء. وسيكون الحب رابطة إنسانية نعيش فيها بتعاطف وحميمية صادقة. لنألف شيء آخر غير انعكاسنا.


قد يكون كل ذلك من ضرب الخيال. تلك النفس الحرة والحب النقي. قد تكون كلها تصورات مجردة من الواقع. وذلك انتقاد عادل. ولكن الحقيقة كما أراها تختلف. عجزُنا عن رؤية الإمكانية من النقطة التي نقف فيها الآن لا يجعلها مستحيلة.

قد نعيش مع النقاء حالة فتريه متقطعة. فنعيش في النقاء تارة وفي الفوضى تارة أخرى. لن نستطيع جميعًا أن نعيش تلك الحالة النقية في آن واحد. وتلك حقيقة مؤلمة ولكن أمل أن نصل للنقاء جزئيًا لفترة وجيزة هو وقود لأرواحنا المبعثرة، محطات استراحة فكرية في خضم الحياة.

الإيمان بالنقاء، بأن هناك نفسًا غير تلك التي نراها في المرآة لا يراها إلا نحن. نفس لم تُخدش بعد، هو إيمان يجعل للحياة معنى أسمى خارج إطارها الحالي.

Previous
Previous

أين أصحاب الأحذية

Next
Next

استمع إلى صوت الأرض وهي تدور