إلى الصامتين، مع التحية

اختاروا الصمت عن عمد

مدة القراءة: دقيقة

يغريك أحدهم بالجلوس معه بعد إلحاح وعدة اتصالات لتمضية الوقت فقط، وعادة ما تأتي تلك الفكرة من شخص يعشق تصدر الجَلسة. وتستمتع إليه وهو يتكلم بطلاقة وفهلوَه عن كمّ هائل من المعلومات المرصوفة بعناية كأنه حكواتي خارج من كتب التاريخ; للحد الذي يتراءى لك أن خلفه أصوات معارك وسيوف ونداءات استغاثة ومعاهدات تُوقّع. وبعد أول رشفه قهوة ودقيقة انغماس وسرحان في همومك الشخصية ومشاويرك المتراكمة وتنظيف غرفتك المؤجل من أسابيع، بلا قصد منك او قلة إتيكيت ورقي; تنسى الذي أمامك وكأن صوته يتردد من بُعد آخر كخلفية موسيقية باردة في مقهى، أو كصوت تلفازك المدار طوال يومك وكأنه أكسسوار منزلي يسد فراغ الصمت برتابة مملة وتنسى أحيانا أن تطفأه، وتخرج لعملك لفرط اللاوزن واللاأهمية.


وأحيانًا، في الركن القصي من الطاولة، أشخاص اختاروا الصمت عن عمد وليس خجلًا منهم أو مجاملات اجتماعية فُرضت عليهم منذ الصغر، ولكنهم اختاروا ألا يبرروا صمتهم وَسَط عائلاتهم أو أصدقائهم أو محيط عملهم. ربما ليشتروا راحة بالهم أو قد يكون شكل من أشكال الحيادية المريحة لهم.


ونوع صامت آخر لأسباب منطقية لأنه اعتاد فقط أن يسمع ويشارك ويناقش أشخاصًا افتراضيين للحد الذي ينسيه الواقع من حوله، وينسيه حتى نفسه ومن في الكرسي المجاور له. أما ذاك الصمت اللذيذ الذي أستطيع تمييزه عن ألف صوت ونَغْمَة ولحن، هو صمت الفاهمين الممتلئين ثقة وآراء وأصوات وشغف وإيمان وحكايا، لكنه لن يتحدث إلا لدائرة تقدر رأيه وكلمته وروحه التي يسكبها في كل كلمة ينطق بها ولانه يعلم أن لا أحد يستحق نصيحته الذهبية واهتمامه الصادق، وهو يعلم تأثير الكلمة على الروح، وقد تحيي تلك الكلمة قلبًا ميتًا وحلمًا مكسورًا ورغبة دفينة.


تحياتي لكل الصامتين مهما كانت أسبابهم، أتفهم أسباب الصمت وأسباب الكلام.

Previous
Previous

مقدمة: نقش ولون وحكايا

Next
Next

مسودة: رهاب وقت القراءة