الجزء الأول: هي وحدها أمام عقلها

هي وحدها أمام عقلها.

كانت تسمع نفسها، دون ضجيج ولا ترددات مزعجة. كان الصوت أخف والهواء أنقى والحلم متوهج كأول الحب. لا شيء يكدر ليلها، ونهارها شمس تسطع على جسدها الطفولي. تتسع الصفات والخيارات لعقلها كلما استيقظت. هل لأن لزهور الربيع عادة التجدد والوقتيه ومرهونة للفصول؟

عندما كانت للمسميات أجنحة تحلق وجسد يتنفس.

كانت ترتب كتبها المحلية والمترجمة بشغف وتحفظ أسماء أبطال رواياتها لتحكي لصديقتها في المدرسة عن تفاصيل الحكاية، وتعطي لها معنى جديد بلغتها ونبضها ورأيها الخاص وقد تكتب حكاية جديدة. تجمع أوراقها بدبابيسها وشرائطها كيفما اتفق خيالها; فتقص وتلصق وتلون وترسم الشخوص والأسطر لتنجب رواية.

أنجبت طفلًا كامل التكوين، له عينان ويدان وأرجل كاملة وعقل طازج.

واختارت له الاسم لا لتبحث له عن أي معنى للتفاؤل بالحظ; بل لتبحث له عن مكان ينام فيه بين السطور، وسرير دافئ، وطعام لينمو ويفكر معها. ولم تختر له لون عينان ولا لون جلد، لأنها لم تكن تفكر بالخرائط والحدود والألوان والأجناس كقضية جدية أو موجودة أصلًا. وكبر طفلها بين صفحاتها يومًا خلف يوم، ربته دون خوف ودون حرج. لم تربي فيه نوع وجنس وامتيازات، ربته على أن جسده له واسمه له. كانت تحدثه عن نفسها وتفاصيل يومها ولونها وطعامها المفضل ورغبتها الشديدة في العيش بأحلام صافية اللون والرؤية. علمته كيف يتكلم وينطق الحروف كيفما يريد، وكيف تكون له تفضيلات، وعلمته كيف يناقشها ويعطيها رأيه بصدق ودون مجاملات. كبرت القصة والفروع والأحاسيس والفكرة والشعور والرأي، وجاء اليوم الذي يظهر فيه ويخطو خطواته الأولى، رتبت تفاصيل حفل البلوغ وزينته بأجمل الثياب وصنعت كعكة عيد الميلاد بنفسها. كانت تتخيله يخطو بشجاعة ليعرف بنفسه على شكل كتاب أو فيلم أو مشروع مدرسي أو قاعة تدريب أو منصة نقاش.

خرجت من غرفتها مسرعة لتبحث عن شرائط زينة في مطبخ بيتهم لتضع اللمسات الاخيرة للحفل. مرت بصالون المنزل فوجدت البيت يعج بالأصوات والتحضيرات والاستعدادات لشيء غريب ومحرج مليء بالهمس والنظرات بين أبويها. أخرجوا لها فستان طويل الأكمام والمقاس لتلبسه، هي تعلم ان والدتها تعرف ذوقها في الملابس فصرخت من بشاعة الفستان لعلمها أنه لا يليق بفكرة حفلة بلوغ أوراقها الملونة. عادت لغرفتها متذمرة لتجد أوراقها بين يدي الخادمة تلمع بها زجاج البيت وصحون استقبال الضيوف الخاطفين لطفولتها.

الجزء التالي
Previous
Previous

العدد الثالث: دليل البلوغ الفني

Next
Next

الجزء الثاني: ولد العار عندما انقطع الوحي عن قلبها